دفع طارق باب الحديقة بقوة و دخل راكضا، في لحظات كان قد تجاوز الأمتار الخمسة التي تفصله عن باب المنزل في وثبتين رشيقتين.
هتف و هو يدخل مسرعا : السلام عليكم...
ثم مر مباشرة إلى غرفة الجلوس، رمى بحقيبته المدرسية جانبا و فتح الجهاز العجيب. تسمر طارق أمام شاشة التلفاز يتابع بعيون مفتوحة عن آخرها و تركيز تام أحداث الشريط المصور للأطفال. كان حماسه قد بلغ ذروته و هو يرفع يده ملوحا مع قفزات البطل الهمام الذي يركض في الطرقات المتفرعة بسرعة مبالغ فيها و يتجاوز الحواجز برشاقة لا مثيل لها تلاحقه مجموعة من الأشرار على دراجات نارية و آخرون في سيارات سوداء. و البطل شاب شجاع، ملامحه طفولية لكن أفعاله مبهرة. و وجد طارق نفسه يهتف و أنفاسه تتلاحق مع أنفاس البطل المتسارعة : "هيا يا وليد! لا تتوقف أرجوك، سيلحقون بك!"
كان البطل وليد، شخصية الصور المتحركة قد توقف من التعب ليستجمع قواه، و قد أوشك ملاحقوه على اللحاق به.
ـ طارق، هل يمكنك أن تذهب لشراء بعض الحاجيات؟ يلزمني الزيت و معجون الطماطم لتحضير الغداء
لم يجب طارق و لم يبد عليه أنه سمع كلام أمه أصلا
ـ طارق بني، أبوك سيعود بعد قليل من العمل... يجب أن أعد الغداء قبل وصوله. ليس لديه الكثير من الوقت للانتظار. تعرف أن أباك يدخل مسرعا و يخرج مسرعا للعودة إلى عمله...
لم يلتفت طارق إلى أمه و لكنه هتف منفعلا
ـ نعم الآن! اقفز، لن يلحقوا بك!
تنهدت الأم في يأس
ـ لا حول و لا قوة إلا بالله، أمري إلى الله...
خرجت الأم إلى البقال و عادت بعد قليل تحمل المشتريات. في طريقها إلى المطبخ مرت بغرفة الجلوس و ألقت نظرة على طارق. كان لا يزال يشاهد التلفاز لكن لم يكن هناك نفس الأبطال. الإطار كان ملعب كرة قدم... الجميع يركض خلف الكرة بإصرار و بدا طارق أكثرهم إصرارا!
ـ نعم هياَ! حاصره، من هنا... لا تتركه يمر، أحسنت خذ منه الكرة...
بدا كأنه مدرب فريق الكرة من الشخصيات المصورة. يوجه الجميع و يوزع التعليمات يمنة و يسرة
ـ الآن... سدد الآن!!
هزت الأم رأسها في أسى و عادت إلى مطبخها دون أن تنطق بكلمة.
فتح الأب الباب و دخل قائلا
ـ السلام عليكم...
ظهرت الأم مبتسمة و أخذت عنه معطفه و أكياس الحاجيات.
ـ أين طارق؟ أليس هنا؟
أشارت الأم في امتعاض إلى غرفة الجلوس و هزت كتفيها في تسليم. توجه الأب إلى غرفة الجلوس و نظر إلى طارق الذي لم ينتبه إلى وجوده
ـ السلام عليكم...
ـ و عليكم السلام و رحمة الله...
رد طارق دون أن يلتفت أو يرفع عينيه عن الشاشة
ـ كيف كانت المدرسة اليوم؟
ـ بخير, الحمد لله
كان طارق يتكلم بآلية دون تركيز و قد استحوذ برنامجه المفضل على كل اهتمامه
ـ ما هذا الذي تشاهده؟
ـ هه؟
لم يلتفت طارق فقد كانت عيناه مثبتتين على الرجل الذي يظهر على الشاشة واضعا طربوشا أحمر و يلتف في رداء أسود و يقف وسط الحلقة و قد أحاط به جمع من الأطفال يراقبون حركاته بنظرات تشبه نظرات طارق من حيث التركيز و الاهتمام.
ـ ما الذي يفعله هذا الرجل؟
سأل الوالد في محاولة لتحويل اهتمام طارق و فتح باب الحوار
ـ إنه ساحر...
أجاب طارق باقتضاب حتى لا يضطر إلى ترك البرنامج و لو للحظة قصيرة.
تطلع الأب إلى الشاشة للحظات ثم هتف
ـ هذا الرجل ليس أبرع مني في السحر، يمكنني أن أقوم ببعض الألاعيب أمامك إن شئت!
نظر إليه طارق في ملل و إشفاق
ـ أرجوك أبي، فيما بعد... ألا يمكنني أن أشاهد ما يقوم به أولا؟
قام الأب في يأس و هو يقول في نفسه " لا فائدة".
انتهى الأب من غدائه و قام للعودة إلى عمله. في طريقه مر على غرفة الجلوس ليلقي نظرة.
ـ طارق، لا تنس أن تقوم بدروسك... و لا تنس وقت الصلاة!
رفع طارق رأسه هاته المرة لثانية واحدة ليلوح لوالده و يقول مطمئنا
ـ لا تقلق، سأفعل...
كان طارق لا يزال يتابع برنامج الساحر... و فجأة تغيرت ملامح الساحر، و بدا كأنه يوجه نظراته إلى طارق بالذات. عقد طارق حاجبيه في شك ظنا منه أنه يتخيل، لكن الساحر هتف به :
ـ أنت... يا ولد!
تلفت طارق حوله في ارتياب، لكن الساحر لم يمهله، و بحركة بهلوانية رشيقة قفز خارج الشاشة ليقف أمامه مباشرة! ذعر طارق و هب واقفا و هو لا يكاد يصدق ما يرى... لكن الساحر تابع :
ـ ألا تخجل من نفسك؟ كيف تخاطب والدك بهذا الإهمال؟ ثم هل عملت بما أوصاك؟ انظر إلى النافذة... لقد تأخر الوقت و حل الظلام و أنت لم تقم لأداء صلاتك بعد!
في تلك اللحظة تناهى إليهما صوت آخر يأتي من ناحية الجهاز... صوت مألوف بالنسبة إلى طارق :
ـ معك حق أيها الساحر... أنا أيضا لم تعجبني تصرفات طارق!
التفت طارق ليجد قائد فريقه المفضل في كرة القدم يظهر على الشاشة و هو لا يزال يرتدي بدلته الرياضية المميزة. و في لمح البصر، كان هو الآخر قد قفز في خفة و لياقة و وقف قبالة طارق بعد أن اخترق الواجهة البلورية دون أن يكسرها! اقترب منه طارق في انبهار ومد يده إليه ليلمسه و هو يهتف :
ـ هل أنت حقيقي؟
كان الخوف قد ذهب عنه و حل محله الفضول و الانجذاب القديم نحو شخصياته المفضلة التي زارته في منزله دون سابق موعد... تجاهله اللاعب الشاب و هو يقول في حزم :
ـ أنا أيضا شاهد على سوء معاملتك لوالديك و عدم طاعتك لهما... كيف تترك والدتك تخرج إلى البقال لشراء الحاجيات، في حين تجلس أنت أمام التلفاز في لامبالاة؟ و ماذا لو فاتتك الحلقة... يمكنك مشاهدة الإعادة... في حين أن رضا والدتك عنك لا يتحمل الإعادة! انظر إلي و إلى مهارتي و شهرتي... هل كنت لأحقق شيئا لولا رضا والدي عني؟ طبعا لا!
ـ و لا تنسوا أمرا هاما!
التفت الجميع إلى مصدر الصوت ليكتشفوا القادم الجديد الذي أخذ مكانه بينهم بدون أن يشعروا بوجوده... إنه البطل الهمام الذي ينقذ الضعفاء و يقف في وجه الأشرار دائما! بطل الشريط المصور الذي يدمنه طارق أكثر من أي برنامج آخر!
ـ دراستك يا صديقي! رأيتك و أنت ترمي حقيبتك المدرسية منذ وصولك... و ها أن النهار قد انقضى و أنت لم تتحرك من مكانك، و لم تراجع دروسك!
طأطأ طارق رأسه خجلا أمام الشخصيات التي يحبها و يتابعها كل يوم بكل لهفة... لكنه كان خجلا من نفسه، لم يرد أن يكون لقاؤه الأول بهم بهذا الشكل... هل بقي لديه أمل لكسب صداقتهم؟
ـ اسمع...
رفع رأسه حين تكلم الساحر:
ـ نحن يسعدنا أنك تحب برامجنا و تتابعها... و لكننا نريد مصلحتك... و لا نود أن نكون السبب في ضياعك...
هز طارق رأسه متفهما فبادره اللاعب الرياضي :
ـ إذن، هل أنت مستعد لتغيير تصرفاتك؟
هز رأسه من جديد في حركة سريعة معبرا عن موافقته. نظر إليه بطل الشريط المصور و قال :
ـ و ما الذي ستفعله الآن؟
ـ سأقوم بدروسي... و أطيع والدي و أسمع كلامهما...
عقد الساحر حاجبيه و هو يقول :
ـ ألم تنس شيئا؟
حك طارق رأسه متفكرا ثم هتف :
ـ الصلاة... نعم!
ـ نعم أحست... لا تنسى أننا نراقبك... و أن الله يراقبك!
ـ طارق، طارق، استيقظ... هل أديت صلاتك؟
فتح طارق عينيه بصعوبة، كانت أمه تهزه في رفق. تطلع إلى النافذة : الحمد لله لم تغب الشمس بعد! لكن شخصياته المفضلة كانت قد اختفت... التلفاز لا يزال مفتوحا و يعرض نشرة الأخبار.
ـ طارق، هل صليت العصر؟
وقف طارق في سرعة و فرك عينيه ليطرد آثار النوم
ـ سأذهب حالا يا أمي... و لن أتخلف عن صلاتي مستقبلا... و أعدك بطاعتك و طاعة والدي... و سأهتم بدراستي أيضا...
نظرت إليه أمه في حيرة في حين قبّلها طارق بسرعة قبل أن ينهض للوضوء و على شفتيه ابتسامة عريضة... لقد كان حلما جميلا!