و مرت دقائق و كلانا صامت حائر مفكر يترقب الآخر ليبدأ بالكلام . و لكن هل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الأرواح المتحابة ؟ هل هي الأصوات و المقاطع الخارجة من الشفاه و الألسنة التي تقرب بين القلوب و العقول ؟ أفلا يوجد شيء أسمى مما تلده الأفواه و أطهر مما تهتز به أوتار الحناجر ؟ أليست هي السكينة التي تحمل شعاع النفس إلى النفس , و تنقل همس القلب إلى القلب ؟ أليست هي السكينة التي تفصلنا عن ذواتنا فنسبح في فضاء الروح غير المحدود , مقتربين من الملأ الأعلى , شاعرين بأن أجسادنا لا تفوق السجون الضيقة , و هذا العالم لا يمتاز عن المنفى البعيد ؟
إن قلب المرأة لا يتغير مع الزمن ولا يتحول مع الفصول . قلب المرأة ينازع طويلا و لكنه لا يموت . قلب المرأة يشابه البرية التي يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه , فهو يقتلع أشجارها و يحرق أعشابها و يلطخ صخورها بالدماء و يغرس تربتها بالعظام و الجماجم , و لكنها تبقى هادئة ساكنة مطمئنة و يظل فيها الربيع ربيعا و الخريف خريفا إلى نهاية الدهور ...
كانت المرأة بالأمس خادمة سعيدة فصارت اليوم سيدة تعسة . كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار فأصبحت مبصرة تسير في ظلمة الليل . كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها فصارت قبيحة بتفننها سطحية بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفها . فهل يجيء يوم يجتمع في المرأة الجمال بالمعرفة , و التفنن بالفضيلة , و ضعف الجسد بقوة النفس ؟ أنا من القائلين إن الارتقاء الروحي سنة في البشر , و التقرب من الكمال شريعة بطيئة لكنها فعالة ....
للكآبة أيد حريرية الملامس قوية الأعصاب تقبض على القلوب و تؤلمها بالوحدة , فالوحدة حليفة الكآبة كما أنها
أليفة كل حركة روحية . و نفس الصبي المنتصبة أمام عوامل الوحدة و تأثيرات الكآبة شبيهة بالزنقبة البيضاء عند خروجها من الكمام ترتعش أمام النسيم و تفتح قلبها لأشعة الفجر و تضم أوراقها بمرور أخيلة المساء , فإن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته ومن الرفاق من يشاركه في الميول كانت الحياة أمامه كحبس ضيق لا يرى في جوانبه غير أنوال العناكب ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات .
و المرء إن لم تحبل به الكآبة و يتمخض به اليأس و تضعه المحبة في مهد الأحلام تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان .